فصل: سؤال عما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وصورة السؤال ‏:‏

المسؤول من السادة العلماء أئمة الدين أن يبينوا ما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين ‏.‏

وصورة الجواب ‏:‏

الحمد لله رب العالمين، أجمع المسلمون على أن النبى صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له فى الشفاعة‏.‏ ثم إن أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفق عليه الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ واستفاضت به السنن من أنه صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضا لعموم الخلق‏.‏

فله صلى الله عليه وسلم شفاعات يختص بها لا يشركه فيها أحد، وشفاعات يشركه فيها غيره من الأنبياء والصالحين، لكن ما له فيها أفضل مما لغيره، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وأكرمهم على ربه عز وجل، وله من الفضائل التى ميزه الله بها على سائر النبيين ما يضيق هذا الموضع عن بسطه، ومن ذلك ‏[‏المقام / المحمود‏]‏ الذى يغبطه به الأولون والآخرون، وأحاديث الشفاعة كثيرة متواترة، منها فى الصحيحين أحاديث متعددة، وفى السنن والمساند مما يكثر عدده‏.‏ وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن الشفاعة إنما هى للمؤمنين خاصة فى رفع بعض الدرجات، وبعضهم أنكر الشفاعة مطلقا‏.‏

وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به ويتوسلون به فى حياته بحضرته، كما ثبت فى صحيح البخارى عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال‏:‏ اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا‏.‏ فيسقون‏.‏

وفى البخارى أيضًا عن ابن عمر أنه قال‏:‏ ربما ذكرت قول الشاعر ـ وأنا أنظر إلى وجه النبى صلى الله عليه وسلم يستسقى، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب ـ ‏:‏

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه**ثمال اليتامى عصمة للأرامل‏.‏

والتوسل بالنبى صلى الله عليه وسلم الذى ذكره عمر بن الخطاب قد جاء مفسرًا فى سائر أحاديث الاستسقاء، وهو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته، ونحن نقدمه بين أيدينا شافعًا وسائلا لنا، بأبى هو وأمى صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكذلك معاوية بن أبى سفيان ـ لما أجدب الناس بالشام ـ استسقى بيزيد بن الأسود الجرشى فقال‏:‏ اللهم إنا نستشفع ـ ونتوسل ـ بخيارنا‏.‏ يا يزيد، ارفع يديك‏.‏ فرفع يديه ودعا، ودعا الناس حتى سقوا‏.‏ / ولهذا قال العلماء‏:‏ يستحب أن يستسقى بأهل الدين والصلاح، وإذا كانوا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أحسن‏.‏

وهذا الاستشفاع والتوسل حقيقته التوسل بدعائه؛ فإنه كان يدعو للمتوسل به المستشفع به والناس يدعون معه، كما أن المسلمين لما أجدبوا على عهد النبى صلى الله عليه وسلم دخل عليه أعرابى فقال‏:‏ يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغثنا‏.‏ فرفع النبى صلى الله عليه وسلم يديه وقال‏:‏ ‏(‏اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا‏)‏ وما فى السماء قَزْعَة؛ فنشأت سحابة من جهة البحر فمطروا أسبوعًا لا يرون فيه الشمس؛ حتى دخل عليهم الأعرابى ـ أو غيره ـ فقال‏:‏ يا رسول الله، انقطعت السبل، وتهدم البنيان، فادع الله يكشفها عنا‏.‏ فرفع يديه وقال‏:‏ ‏(‏اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام ‏[‏الآكام‏:‏ الروابى وهى الأماكن المرتفعة، والظراب‏:‏الجبال الصغار‏.‏ انظر‏:‏النهاية فى غريب الحديث 3/651‏.‏ ولسان العرب، مادة ‏"‏ أكم ‏"‏‏]‏ والظِّراب ومنابت الشجر وبطون الأودية‏)‏ فانجابت عن المدينة كما ينجاب الثوب‏.‏ والحديث مشهور فى الصحيحين وغيرهما‏.‏

وفى حديث آخر فى سنن أبى داود وغيره أن رجلا قال له‏:‏ إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك‏.‏ فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤى ذلك فى وجوه أصحابه وقال‏:‏ ‏(‏ويحك، أتدرى ما الله ‏؟‏ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك‏)‏‏.‏

وهذا يبين أن معنى الاستشفاع بالشخص ـ فى كلام النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ـ وهو استشفاع بدعائه وشفاعته، ليس هو السؤال بذاته؛ فإنه لو كان هذا / السؤال بذاته لكان سؤال الخلق بالله تعالى أولى من سؤال الله بالخلق، ولكن لما كان معناه هو الأول، أنكر النبى صلى الله عليه وسلم قوله‏:‏ نستشفع بالله عليك، ولم ينكر قوله‏:‏ نستشفع بك على الله؛ لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضى حاجة الطالب والله تعالى لا يسأل أحدًا من عباده أن يقضى حوائج خلقه، وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله تعالى فى مثل قوله‏:‏

شفيعى إليك الله لا رب غيره**وليس إلى رد الشفيع سبيل

فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالم‏.‏ وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله سبحانه إلى النبى صلى الله عليه وسلم وكلاهما خطأ وضلال، بل هو سبحانه المسؤول المدعو الذى يسأله كل من فى السموات والأرض، ولكن هو تبارك وتعالى يأمر عباده فيطيعونه، وكل من وجبت طاعته من المخلوقين فإنما وجبت لأن ذلك طاعة لله تعالى، فالرسل يبلغون عن الله أمره؛ فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن بايعهم فقد بايع الله‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏‏[‏ النساء‏:‏ 64 ‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ‏}‏‏[‏ النساء‏:‏ 80 ‏]‏‏.‏ وأولو الأمر من أهل العلم وأهل الإمارة إنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏على المرء المسلم السمع والطاعة فى عسره ويسره ومنشطه ومكرهه‏)‏، ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏ ما لم يؤمر بمعصية الله، فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة‏)‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق‏)‏‏.‏

/ وأما الشافع فسائل لا تجب طاعته فى الشفاعة وإن كان عظيما، وفى الحديث الصحيح‏:‏ أن النبى سأل بَرِيرة أن تمسك زوجها ولا تفارقه لما أعتقت، وخيرها النبى صلى الله عليه وسلم فاختارت فراقه، وكان زوجها يحبها فجعل يبكى، فسألها النبى صلى الله عليه وسلم أن تمسكه فقالت‏:‏ أتأمرنى ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا، إنما أنا شافع‏)‏‏.‏ وإنما قالت‏:‏ ‏(‏أتأمرنى ‏؟‏‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏إنما أنا شافع‏)‏ لما استقر عند المسلمين أن طاعة أمره واجبة بخلاف شفاعته، فإنه لا يجب قبول شفاعته، ولهذا لم يلمها النبى صلى الله عليه وسلم على ترك قبول شفاعته، فشفاعة غيره من الخلق أولى ألا يجب قبولها‏.‏

والخالق جل جلاله أمره أعلى وأجل من أن يكون شافعًا إلى مخلوق، بل هو سبحانه أعلى شأنًا من أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ‏}‏‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏:‏ 29‏]‏ ‏.‏

ودل الحديث المتقدم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستشفع به إلى الله عز وجل، أى يطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة فى الدنيا والآخرة؛ فأما فى الآخرة فيطلب منه الخلق الشفاعة فى أن يقضى الله بينهم، وفى أن يدخلوا الجنة، ويشفع فى أهل الكبائر من أمته، ويشفع فى بعض من يستحق النار ألا يدخلها، ويشفع فى بعض من دخلها أن يخرج منها‏.‏